طارت الوظيفة
لم يكن هذا الصباح مثل غيره ، بعد أن تلقيت رسالة من زميل قديم يسألني كيف يمكنه أن يصبح مبرمجاً مثلي وبالتحديد في نفس تخصصي في ASP.NET … لم أستغرب الطلب إذ أتلقى مثل هذه الأسئلة من آخرين من آن إلى آخر ، لكن وجه استغرابي هو أن تأتيني من هذا الزميل ذو ال٤٥ عاماً والذي يعمل في مجال IT منذ ٣٠ عاماً ، ما بين إدارة الشبكات وإعداد الخوادم servers وضبط الـ data centers وتنصيب قواعد البيانات المركزية وغيرها من الأمور الفنية الدقيقة التي تحتاج خبرة وعلم كبيرين.
كنت أعلم جيداً ما لزميلي هذا من معرفة وخبرة بمجاله وعمله في شركات كبرى في عدة مدن مهمة آخرهم لندن ثم أمستردام ، ولكن لم أكن أعلم ما يعانيه زميلي هذا بسبب “السحاب”.
حتى أتمكن من إعطائه أفضل نصيحة ، أردت أن أعرف أكثر عن خبرته ومهاراته وكذا عن دوافعه ومحفزاته ، وبعد أن إلتقينا في موعد ، علمت أن هناك احتمال كبير أن تقوم شركته بالاستغناء عنه أو على الأقل نقله إلى قسم آخر لا يمت لخبرته بشيء وذلك حال لو لم يتمكنوا من التخلص منه قانونياً أو لو لم يصلوا إلى اتفاق. وعلمت أيضاً أن هذا تم بالفعل مع عدد من زملائه في ذات المكان وفي الأماكن السابقة ، وهو ما صار يكد عليه نومه ويبقيه مستيقظاً مهموماً ليال طوال.
الشركات صارت تتجه بخطى متسارعة ثابتة نحو الحوسبة السحابية cloud computing عبر نقل كل البنى التحتية infrastructure إلى السحاب cloud ، وما يستتبع ذلك من قتل مستمر لوظائف الـ IT وتحويل كثير من مسؤولياتهم تدريجياً لفرق البرمجة ذاتها أو ما يعرف بـ DevOps … ليتبق في النهاية “صناع الطرابيش” اللذين كانوا يمتلكون صناعة مزدهرة ، ولكن تتغير الأحوال والأذواق والقوانين ، فتصبح صناعة عفا عليها الزمن obsolete.
موفري الخدمة من شركات الحوسبة الكبرى يسوقون بشدة للسحاب ولمفهوم الـ DevOps ويصورون الشركات الغير سحابية كأصحاب الكهف ، ويدعونهم باستماتة للتخلص من بنيتهم التحتية ونقل كل أعمالهم وبياناتهم إلى السحاب ، حتى يحدث ما أسميه “زواج المسيار” vendor marriage أو الزواج من موفر الخدمة ، فلا يقدر هؤلاء الزبائن أبداً من الإفلات من الشباك ويبقون رهينة للسحاب إلى الأبد ، ويبقى تدفق النقود مستمراً.
يريد زميلي أن يتطور محاولاً بث الروح من جديد في عمله ، ولكن هل يقدر وقد امتلأ عقله بالفعل بسنوات طوال من العلم والعمل والخبرات المتسعة في مجال صعب معقد … إنها لعنة التخصص وتقسيم العمل. كلي أمل أن يقدر وسأساعد ما استطعت ، ولكن النوايا لا تكفي والبوادر لا تطمئن.
طارت النقود
منذ أشهر قليلة ، تحديداً فبراير ٢٠١٩ ، أعلنت Microsoft Azure عن توفير خدمة Azure Cost Management لعملائها في أوروبا ، وهي خدمة تمكن العملاء من متابعة دقيقة لتكاليف الخدمات المستخدمة من الخدمات السحابية Azure … في السابق كان هناك خواص مماثلة لمراقبة النفقات لكنها لم تكن بذات العمق والتخصص.
تلك الخدمة الجديدة مكنت أحد بنوك هولندا من تتبع بعض التكاليف ومن ثم تقليصها بنسبة ٣٠٪ ، من ٥٠ ألف يورو مدفوعات شهرية إلى ٣٥ ألف يورو ، فقط عبرإيقاف خاصية واحدة هي الـ Replication في خدمة قواعد البيانات Azure Cosmos DB.
الطريف أن هذه الخدمة من قواعد البيانات Azure Cosmos DB كان يتم تسويقها بأنها مجانية تماماً طالما لم يتخط المستخدم حداً معيناً من الاستهلاك والمصادر ، وذلك نكاية في الغريم التقليدي لخدمة قواعد البيانات من أمازون Amazon AWS Document DB والذي يوفر خواص ومزايا شبيهة … كانت ميزة “المجانية في البداية” ما دفع هذا البنك إلى تبني هذه الخدمة ، لكنه لم يكن يعلم أن الضبط الافتراضي لهذه الخدمة سيكون شاملاً لخصائص داخلية مدفوعة وأيضاً مكلفة جداً مثل الـ Replication ، ولا أعتقد أبداً أن في الأمر حسن نية من Microsoft.
خدمة Azure Cost Management التي مكنت هذا البنك من توفير أموال طائلة ، ربما أيضاً مكنت أخرون من فعل المثل ، هو الأمر الذي انعكس جلياً على تناقص إيرادات وتباطؤ في نمو الخدمات السحابية Azure طوال هذا العام … ولكن ماذا عن الأعوام السابقة؟ هذا البنك مثلاً يدفع مقابل هذه الخدمات منذ ٣ سنوات … وأيضاً ماذا عن الخدمات الأخرى التي تبدوا “مجانية في البداية” مثل Azure Functions و AWS Lambda؟ أظن أن الكثيرين في انتظارهم “خازوق”.
من ناحية أخرى ، ما الذي دفع هذا البنك إلى تبني السحاب؟ علماً بأن ٩٩٪ من عملاء البنك هولنديين مقيمين بهولندا وعددهم في حدود ٥٠٠٠ عميل فقط ، وأن البنك لديه data centers محلية ضخمة ومهيئة لكافة الأغراض والتي بالفعل يعمل منها عدد من تطبيقات البنك المهمة ، ولدى البنك بالطبع فريقاً متخصصاً على أعلى مستوى في إدارة وضبط وتأمين هذه الـ data centers. البنك لا يحتاج scalability فعدد عملائه ثابت ومحدود ، ولا يحتاج geo-availability مطلقاً فكل العملاء تقريباً في ذات الدولة ، ولكنه قرر في النهاية السير في هذا الطريق ، ومن ثم دفع أجور باهظة لمهندسين ومصممين متخصصين في السحاب cloud architect ، وأجور فريق متخصص للدعم platform team ، بالطبع غير أجور التدريب وتكاليف استهلاك الخدمة ذاتها.
شركة كبرى مثل Indeed والتي تعتبر محرك البحث الأهم للوظائف والتي تعمل في أكثر من ٦٠ دولة بـ ٢٨ لغة ، قررت الابتعاد مطلقاً عن السحاب والتركيز على بناء بنيتها التحتية الخاصة حول العالم ، والسبب والدافع الأهم ببساطة هو توفير النفقات.
صديق لي ، لديه موقع إليكتروني كان ينوي استضافته على أحد موفري خدمات السحاب ، طلب مني رأيي في هذا … فقمنا سوياً بالحسابات ووجدنا أن موقعه سيكلفه شهرياً قرابة ١٠٠ يورو عند استضافته على السحاب ، بينما استضافة تقليدية ستكلفه ١٠ يورو في الشهر … بالطبع القرار صار جلياً.
طار الأمان
في حلقة أمازون من برنامج دليل الوطنية Patriot Act لحسن منهاج على نتفلكس Netflex – الحلقة يمكن مشاهدتها هنا على اليوتيوب – بجانب حديثه عن عملاق التسوق أمازون Amazon وممارساته الاحتكارية وظروف العمل السيئة به وتفحله كشركة فوق القانون والدول ، تطرق منهاج أيضاً إلى الخدمات السحابية المقدمة من أمازون Amazon Web Services – AWS.
على عكس فيسبوك وجوجل ، أمازون تراقب المستخدمين من أجل منفعتها الخاصة … عبر تتبع سلوكياتهم وتحليل أنماط استهلاكهم ، يمكن لأمازون عمل استهداف للأفراد واحتكار سلع وأسواق كاملة … أمازون تمتلك أكثر من ٨٠٪ من الحصة السوقية للحوسبة السحابية ، ملايين من المواقع والملفات وقواعد البيانات يتم استضافتها على خوادم أمازون ، كمية مهولة من المعلومات عن الأفراد والشركات تمر عبر شبكات أمازون.
لقد أصبحنا في زمن المعلومات فيه هي السلاح الأقوى ، ومن يمتلك هذه المعرفة يمتلك القوة … ومن السذاجة افتراض أن الشركات الكبرى يحكمها الأخلاق والمباديء ، فهم لن يتوانوا لحظة وبأي وسيلة عن زيادة حصيلتهم ورأس مالهم من المعلومات ، وبمنتهى الفظاظة سيخبرونك أنهم يتجسسون عليك وبراقبونك من أجلك أنت.
لقد أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من التنفيذ الإجباري لنظام الخدمات مقابل السمعة والمسمى Social Credit System والمزمع تطبيقه إلزامياً سنة ٢٠٢٠م في الصين ، إذ يتلقى المواطنون خدمات أكثر أو أرخص إن كان لديهم سمعة حسنة بناءاً على نظام إليكتروني لاحتساب النقاط … وطبعاً العكس بالعكس ، فقد يحرم مواطنون من خدمات كاملة أو يحصلون عليها متأخراً أو أغلى ، إن كانت نقاطهم منخفضة … يعكف على بناء هذا النظام مجموعة من أكبر الشركات الرقمية في الصين … والتي تعمل وتطبق هذا في مكان ما ، في السحاب.
قبل أن يطير الدخان
نحن كمبرمجين كثيراً ما نخطيء في تقديراتنا للأمور ، إذ نميل إلى التركيز على تحليلاتنا الفنية المبنية على سنوات طويلة من الخبرة ، ونتجاهل في كثير من الأحيان النظر إلى الصورة العامة ومنها التكاليف والعقبات والعيوب. ربما ذلك راجع إلى ظاهرة أو متلازمة الرؤية النفقية Tunnel Vision التي دائماً ما تصاحب أصحاب الخبرات الفنية الطويلة والذين يتعمقون كثيراً في معرفتهم بمجالهم ، وهذا بالطبع محمود لكنه أيضاً مضر في أوقات كثيرة.
وبالطبع إدارات الشركات تخطيء ، وبالأخص عند عدم استشارة ذوي التخصص ، وبالأخص أكثر المحايدون منهم … وفي النهاية تدفع الشركات أموال طائلة دون مساءلة أحد لأن الجميع يعرفون كيف يلعبون اللعبة وكيف يرصون الأوراق وكيف يمثلون على المستثمرين ، وكيف يتحايلون على القانون بجيوش من المحامين. ونفاجأ يومياً بشركات تعلن إفلاسها ، ويحمي القانون مديرو هذه الشركات من أي ملاحقات قضائية ، ليستمتعوا بممتلكاتهم وثرواتهم وليذهب الجميع إلى الجحيم.
أعلم جيداً فوائد الحوسبة السحابية وكذا عيوبها العديدة … في مقالي هذا حاولت إلقاء بعض الضوء على تلك العيوب ، حتى تتمكن قبل القفز إلى أعلى حيث أحضان السحاب أن تعلم جيداً ما أنت مقبل عليه. لا تشتر أو تستخدم شيء لمجرد السمعة أو للسير مع الاتجاه العام trend … ولا تثق في ما يلقى عليك ، ابحث عن الحقيقة بنفسك واقرأ بين السطور … وابحث عن احتياجاتك الحقيقية وفندها ، حتى تصل في النهاية إلى القرار الأصوب.